الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **
سورة النحل وهي مكية كلها في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر. وتسمى سورة النعم بسبب ما عدد الله فيها من نعمه على عباده. وقيل: هي مكية غير قوله تعالى {أتى أمر الله فلا تستعجلوه سبحانه وتعالى عما يشركون} قوله تعالى{أتى أمر الله فلا تستعجلوه} قيل{أتى} بمعنى يأتي؛ فهو كقولك: إن أكرمتني أكرمتك. وقد تقدم أن أخبار الله تعالى في الماضي والمستقبل سواء؛ لأنه آت لا محالة، كقوله قلت: قد يستدل الضحاك بقول عمر رضي الله عنه: وافقت ربي في ثلاث: في مقام إبراهيم، وفي الحجاب، وفي أسارى بدر؛ خرجه مسلم والبخاري. وقال الزجاج: هو ما وعدهم به من المجازاة على كفرهم، وهو كقوله قوله تعالى{سبحانه وتعالى عما يشركون} أي تنزيها له عما يصفونه به من أنه لا يقدر على قيام الساعة، وذلك أنهم يقولون: لا يقدر أحد على بعث الأموات، فوصفوه بالعجز الذي لا يوصف به إلا المخلوق، وذلك شرك. وقيل{عما يشركون} أي عن إشراكهم. وقيل{ما} بمعنى الذي أي ارتفع عن الذين أشركوا به. {ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون} قرأ المفضل عن عاصم }تَنَزَّل الملائكةُ} والأصل تتنزل، فالفعل مسند إلى الملائكة. وقرأ الكسائي عن أبي بكر عن عاصم باختلاف عنه والأعمش }تُنَزَّل الملائكةُ} غير مسمى الفاعل. وقرأ الجعفي عن أبي بكر عن عاصم }تُنَزِّل الملائكةَ} بالنون مسمى الفاعل، الباقون }يُنَزِّل} بالياء مسمى الفاعل، والضمير فيه لاسم الله عز وجل. وروي عن قتادة }تنزل الملائكة} بالنون والتخفيف. وقرأ الأعمش }تنزل} بفتح التاء وكسر الزاي، من النزول. }الملائكة} رفعا مثل {خلق السماوات والأرض بالحق تعالى عما يشركون} قوله تعالى{خلق السماوات والأرض بالحق} أي للزوال والفناء. وقيل{بالحق} أي للدلالة على قدرته، وأن له أن يتعبد العباد بالطاعة وأن يحيى بعد الموت. }تعالى عما يشركون} أي من هذه الأصنام التي لا تقدر على خلق شيء. {خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين} قوله تعالى{خلق الإنسان من نطفة} لما ذكر الدليل على توحيده ذكر بعده الإنسان ومناكدته وتعدي طوره. و}الإنسان} اسم للجنس. وروي أن المراد به أبي بن خلف الجمحي، جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعظم رميم فقال: أترى يحيي الله هذا بعد ما قد رم. وفي هذا أيضا نزل {والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون} قوله تعالى{والأنعام خلقها لكم} لما ذكر الإنسان ذكر ما من به عليه. والأنعام: الإبل والبقر والغنم. وأكثر ما يقال: نعم وأنعام للإبل، ويقال للمجموع ولا يقال للغنم مفردة. قال حسان: ديار من بني الحسحاس قفر تعفيها الروامس والسماء
وكانت لا يزال بها أنيس خلال مروجها نعم وشاء فالنعم هنا الإبل خاصة. وقال الجوهري: والنعم واحد الأنعام وهي المال الراعية، وأكثر ما يقع هذا الاسم على الإبل. قال الفراء: هو ذكر لا يؤنث، يقولون: هذا نعم وارد، ويجمع على نعمان مثل حمل وحملان. والأنعام تذكر وتؤنث؛ قال الله تعالى قوله تعالى{دفء} الدفء: السخانة، وهو ما استدفئ به من أصوافها وأوبارها وأشعارها، ملابس ولحف وقطف. وروي عن ابن عباس: دفؤها نسلها؛ والله أعلم قال الجوهري في الصحاح: الدفء نتاج الإبل وألبانها وما ينتفع به منها؛ قال الله تعالى{لكم فيها دفء}. قوله تعالى{ومنافع} قال ابن عباس: المنافع نسل كل دابة. مجاهد: الركوب والحمل والألبان واللحوم والسمن. }ومنها تأكلون} أفرد منفعة الأكل بالذكر لأنها معظم المنافع. وقيل: المعنى ومن لحومها تأكلون عند الذبح. دلت هذه الآية على لباس الصوف، وقد لبسه رسول الله صلى الله عليه وسلم والأنبياء قبله كموسى وغيره. وفي حديث المغيرة: فغسل وجهه وعليه جبة من صوف شامية ضيقة الكمين... الحديث، خرجه مسلم وغيره. قال ابن العربي: وهو شعار المتقين ولباس الصالحين وشارة الصحابة والتابعين، واختيار الزهاد والعارفين، وهو يلبس لينا وخشنا وجيدا ومقاربا ورديئا، وإليه نسب جماعة من الناس الصوفية؛ لأنه لباسهم في الغالب، فالياء للنسب والهاء للتأنيث. وقد انشدني بعض أشياخهم بالبيت المقدس طهره الله: ولست أنحل هذا الاسم غير فتى صافى فصوفي حتى سمي الصوفي {ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون} الجمال ما يتجمل به ويتزين. والجمال: الحسن. وقد جمُل الرجل - بالضم - جمالا فهو جميل، والمرأة جميلة، وجملاء أيضا؛ عن الكسائي. وأنشد: وقول أبي ذؤيب: يريد: الزم تجملك وحياءك ولا تجزع جزعا قبيحا. قال علماؤنا: فالجمال يكون في الصورة وتركيب الخلقة، ويكون في الأخلاق الباطنة، ويكون في الأفعال. فأما جمال الخلقة فهو أمر يدركه البصر ويلقيه إلى القلب متلائما، فتتعلق به النفس من غير معرفة بوجه ذلك ولا نسبته لأحد من البشر. وأما جمال الأخلاق فكونها على الصفات المحمودة من العلم والحكمة والعدل والعفة، وكظم الغيظ وإرادة الخير لكل أحد. وأما جمال الأفعال فهو وجودها ملائمة لمصالح الخلق وقاضية لجلب المنافع فيهم وصرف الشر عنهم. وجمال الأنعام والدواب من جمال الخلقة، وهو مرئي بالأبصار موافق للبصائر. ومن جمالها كثرتها وقول الناس إذا رأوها هذه نعم فلان؛ قاله السدي. ولأنها إذا راحت توفر حسنها وعظم شأنها وتعلقت القلوب بها؛ لأنها إذ ذاك أعظم ما تكون أسمنة وضروعا؛ قاله قتادة. ولهذا المعنى قدم الرواح على السراح لتكامل درها وسرور النفس بها إذ ذاك. والله أعلم. وروى أشهب عن مالك قال: يقول الله عز وجل }ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون} وذلك في المواشي حين تروح إلى المرعى وتسرح عليه. والرواح رجوعها بالعشي من المرعى، والسراح بالغداة؛ تقول: سرحت الإبل أسرحها سرحا وسروحا إذا غدوت بها إلى المرعى فخليتها، وسرحت هي. المتعدي واللازم واحد. {وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرؤوف رحيم} قوله تعالى{وتحمل أثقالكم} الأثقال أثقال الناس من متاع وطعام وغيره، وهو ما يثقل الإنسان حمله. وقيل: المراد أبدانهم؛ يدل على ذلك قوله تعالى ويجوز أن يكون بمعمى المصدر، من شققت عليه شقا. والشق أيضا بالكسر النصف، يقال: أخذت شق الشاة وشقة الشاة. وقد يكون المراد من الآية هذا المعنى؛ أي لم تكونوا بالغيه إلا بنقص من القوة وذهاب شق منها، أي لم تكونوا تبلغوه إلا بنصف قوى أنفسكم وذهاب النصف الآخر. والشق أيضا الناحية من الجبل. وفي حديث أم زرع: وجدني في أهل غنيمة بشق. قال أبو عبيد: هو اسم موضع. والشق أيضا: الشقيق، يقال: هو أخي وشق نفسي. وشق اسم كاهن من كهان العرب. والشق أيضا: الجانب؛ ومنه قول امرئ القيس: فهو مشترك. منَّ الله سبحانه بالأنعام عموما، وخص الإبل هنا بالذكر في حمل الأثقال على سائر الأنعام؛ فإن الغنم للسرح والذبح، والبقر للحرث، والإبل للحمل. في هذه الآية دليل على جواز السفر بالدواب وحمل الأثقال عليها. ولكن على قدر ما تحتمله من غير إسراف في الحمل مع الرفق في السير. وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالرفق بها والإراحة لها ومراعاة التفقد لعلفها وسقيها. {والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون} قوله تعالى{والخيل} بالنصب معطوف، أي وخلق الخيل. وقرأ ابن أبي عبلة }والخيل والبغال والحمير} بالرفع فيها كلها. وسميت الخيل خيلا لاختيالها في المشية. وواحد الخيل خائل، كضائن واحد ضين. وقيل لا واحد له. ولما أفرد سبحانه الخيل والبغال والحمير بالذكر دل على أنها لم تدخل تحت لفظ الأنعام وقيل دخلت ولكن أفردها بالذكر لما يتعلق بها من الركوب؛ فإنه يكثر في الخيل والبغال والحمير. قال العلماء: ملكنا الله تعالى الأنعام والدواب وذللها لنا، وأباح لنا تسخيرها والانتفاع بها رحمة منه تعالى لنا، وما ملكه الإنسان وجاز له تسخيره من الحيوان فكراؤه له جائز بإجماع أهل العلم، لا اختلاف بينهم في ذلك. وحكم كراء الرواحل والدواب مذكور في كتب الفقه. لا خلاف بين العلماء في اكتراء الدواب والرواحل عليها والسفر بها؛ لقوله تعالى قلت: ولا يختلف في هذا إن شاء الله؛ لأن ذلك إجارة. قال ابن المنذر: وأجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على أن من اكترى دابة ليحمل عليها عشرة أقفزة قمح فحمل عليها ما اشترط فتلفت أن لا شيء عليه. وهكذا إن حمل عليها عشرة أقفزة شعير. واختلفوا فيمن اكترى دابة ليحمل عليها عشرة أقفزة فحمل عليها أحد عشر قفيزا، فكان الشافعي وأبو ثور يقولان: هو ضامن لقيمة الدابة وعليه الكراء. وقال ابن أبي ليلى: عليه قيمتها ولا أجر عليه. وفيه قول ثالث - وهو أن عليه الكراء وعليه جزء من أجر وجزء من قيمة الدابة بقدر ما زاد من الحمل؛ وهذا قول النعمان ويعقوب ومحمد. وقال ابن القاسم صاحب مالك: لا ضمان عليه في قول مالك إذا كان القفيز الزائد لا يفدح الدابة، ويعلم أن مثله لا تعطب فيه الدابة، ولرب الدابة أجر القفيز الزائد مع الكراء الأول؛ لأن عطبها ليس من أجل الزيادة. وذلك بخلاف مجاوزة المسافة؛ لأن مجاوزة المسافة تَعَد كله فيضمن إذا هلكت في قليله وكثيره. والزيادة على الحمل المشترط اجتمع فيه إذنٌ وتعد، فإذا كانت الزيادة لا تعطب في مثلها علم أن هلاكها مما أذن له فيه. واختلف أهل العلم في الرجل يكتري الدابة بأجر معلوم إلى موضع مسمى، فيتعدى فيجتاز ذلك المكان ثم يرجع إلى المكان المأذون له في المصير إليه. فقالت طائفة: إذا جاوز ذلك المكان ضمن وليس عليه في التعدي كراء؛ هكذا قال الثوري. وقال أبو حنيفة: الأجر له فيما سمى، ولا أجر له فيما لم يسم؛ لأنه خالف فهو ضامن، وبه قال يعقوب. وقال الشافعي: عليه الكراء الذي سمى، وكراء المثل فيما جاوز ذلك، ولو عطبت لزمه قيمتها. ونحوه قال الفقهاء السبعة، مشيخة أهل المدينة قالوا: إذا بلغ المسافة ثم زاد فعليه كراء الزيادة إن سلمت وإن هلكت ضمن. وقال أحمد وإسحاق وأبو ثور: عليه الكراء والضمان. قال ابن المنذر: وبه نقول. وقال ابن القاسم: إذا بلغ المكتري الغاية التي اكترى إليها ثم زاد ميلا ونحوه أو أميالا أو زيادة كثيرة فعطبت الدابة، فلربها كراؤه الأول والخيار في أخذه كراء الزائد بالغا ما بلغ، أو قيمة الدابة يوم التعدي. ابن المواز: وقد روى أنه ضامن ولو زاد خطوة. وقال ابن القاسم عن مالك في زيادة الميل ونحوه: وأما ما يعدل الناس إليه في المرحلة فلا يضمن. وقال ابن حبيب عن ابن الماجشون وأصبغ: إذا كانت الزيادة يسيرة أو جاز الأمد الذي تكاراها إليه بيسير، ثم رجع بها سالمة إلى موضع تكاراها إليه فماتت، أو ماتت في الطريق إلى الموضع الذي تكاراها إليه، فليس له إلا كراء الزيادة، كرده لما تسلف من الوديعة. ولو زاد كثيرا مما فيه مقام الأيام الكثيرة التي يتغير في مثلها سوقها فهو ضامن، كما لو ماتت في مجاوزة الأمد أو المسافة؛ لأنه إذا كانت زيادة يسيرة مما يعلم أن ذلك مما لم يعن على قتلها فهلاكها بعد ردها إلى الموضع المأذون له فيه كهلاك ما تسلف من الوديعة بعد رده لا محالة. وإن كانت الزيادة كثيرة فتلك الزيادة قد أعانت على قتلها. قال ابن القاسم وابن وهب قال مالك قال الله تعالى{والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة} فجعلها للركوب والزينة ولم يجعلها للأكل؛ ونحوه عن أشهب. ولهذا قال أصحابنا: لا يجوز أكل لحوم الخيل والبغال والحمير؛ لأن الله تعالى لما نص على الركوب والزينة دل على ما عداه بخلافه. وقال في }الأنعام} }ومنها تأكلون} مع ما امتن الله منها من الدفء والمنافع، فأباح لنا أكلها بالذكاة المشروعة فيها. وبهذه الآية احتج ابن عباس والحكم بن عيينة، قال الحكم: لحوم الخيل حرام في كتاب الله، وقرأ هذه الآية والتي قبلها وقال: هذه للأكل وهذه للركوب. وسئل ابن عباس عن لحوم الخيل فكرهها، وتلا هذه الآية وقال: هذه للركوب، وقرأ الآية التي قبلها }والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع} ثم قال: هذه للأكل. وبه قال مالك وأبو حنيفة وأصحابهما والأوزاعي ومجاهد وأبو عبيد وغيرهم، واحتجوا بما قلت: الصحيح الذي يدل عليه النظر والخبر جواز أكل لحوم الخيل، وأن الآية والحديث لا حجة فيهما لازمة. أما الآية فلا دليل فيها على تحريم الخيل. إذ لو دلت عليه لدلت على تحريم لحوم الحمر، والسورة مكية، وأي حاجة كانت إلى تجديد تحريم لحوم الحمر عام خيبر وقد ثبت في الأخبار تحليل الخيل على ما يأتي. وأيضا لما ذكر تعالى الأنعام ذكر الأغلب من منافعها وأهم ما فيها، وهو حمل الأثقال والأكل، ولم يذكر الركوب ولا الحرث بها ولا غير ذلك مصرحا به، وقد تركب ويحرث بها؛ قال الله تعالى وأما البغال فإنها تلحق بالحمير، إن قلنا إن الخيل لا تؤكل؛ فإنها تكون متولدة من عينين لا يؤكلان. وإن قلنا إن الخيل تؤكل، فإنها عين متولدة من مأكول وغير مأكول فغلب التحريم على ما يلزم في الأصول. وكذلك ذبح المولود بين كافرين أحدهما من أهل الذكاة والآخر ليس من أهلها، لا تكون ذكاة ولا تحل به الذبيحة. وقد علل تحريم أكل الحمار بأنه أبدى جوهره الخبيث حيث نزا على ذكر وتلوط؛ فسمي رجسا. في الآية دليل على أن الخيل لا زكاة فيها؛ لأن الله سبحانه من علينا بما أباحنا منها وكرمنا به من منافعها، فغير جائز أن يلزم فيها كلفة إلا بدليل. وأيضا فإن الحيوان الذي تجب فيه الزكاة له نصاب من جنسه، ولما خرجت الخيل عن ذلك علمنا سقوط الزكاة فيها. وأيضا فإيجابه الزكاة في إناثها منفردة دون الذكور تناقض منه. وليس في الحديث فصل بينهما. ونقيس الإناث على الذكور في نفي الصدقة بأنه حيوان مقتنى لنسله لا لدره، ولا تجب الزكاة في ذكوره فلم تجب في إناثه كالبغال والحمير. وقد روي عنه أنه لا زكاة في إناثها وإن انفردت كذكورها منفردة، وهذا الذي عليه الجمهور. قال ابن عبدالبر: الخبر في صدقة الخيل عن عمر صحيح من حديث الزهري وغيره. وقد روي من حديث مالك، ورواه عنه جويرية عن الزهري أن السائب بن يزيد قال : لقد رأيت أبي يقوم الخيل ثم يدفع صدقتها إلى عمر. وهذا حجة لأبي حنيفة وشيخه حماد بن أبي سليمان، لا أعلم أحدا من فقهاء الأمصار أوجب الزكاة في الخيل غيرهما. تفرد به جويرية عن مالك وهو ثقة. قوله تعالى{وزينة} منصوب بإضمار فعل، المعنى: وجعلها زينة. وقيل : هو مفعول من أجله. والزينة: ما يتزين به، وهذا الجمال والتزيين وإن كان من متاع الدنيا فقد أذن الله سبحانه لعباده فيه؛ قوله تعالى{ويخلق ما لا تعلمون} قال الجمهور: من الخلق. وقيل: من أنواع الحشرات والهوام في أسافل الأرض والبر والبحر مما لم يره البشر ولم يسمعوا به. وقيل : ويخلق ما لا تعلمون} مما أعد الله في الجنة لأهلها وفي النار لأهلها، مما لم تره عين ولم تسمع به أذن ولا خطر على قلب بشر. وقال قتادة والسدي: هو خلق السوس في الثياب والدود في الفواكه. ابن عباس: عين تحت العرش؛ حكاه الماوردي. الثعلبي: وقال ابن عباس عن يمين العرش نهر من النور مثل السماوات السبع والأرضين السبع والبحار السبع سبعين مرة، يدخله جبريل كل سحر فيغتسل فيزداد نورا إلى نوره وجمالا إلى جماله وعِظما إلى عظمه، ثم ينتفض فيخرج الله من كل ريشة سبعين ألف قطرة، ويخرج من كل قطرة سبعة آلاف ملك، يدخل منهم كل يوم سبعون ألف ملك إلى البيت المعمور، وفي الكعبة سبعون ألفا لا يعدون إليه إلى يوم القيامة. وقول خامس: وهو ما قلت: ومن هذا المعنى ما ذكر البيهقي عن الشعبي قال: إن لله عبادا من وراء الأندلس كما بيننا وبين الأندلس، ما يرون أن الله عصاه مخلوق، رضراضهم الدر والياقوت وجبالهم الذهب والفضة، لا يحرثون ولا يزرعون ولا يعملون عملا، لهم شجر على أبوابهم لها ثمر هي طعامهم وشجر لها أوراق عراض هي لباسهم؛ ذكره في بدء الخلق من }كتاب الأسماء والصفات}. {وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لهداكم أجمعين} قوله تعالى{وعلى الله قصد السبيل} أي على الله بيان قصد السبيل، فحذف المضاف وهو البيان. والسبيل: السلام، أي على الله بيانه بالرسل والحجج والبراهين. وقصد السبيل: استعانة الطريق؛ يقال: طريق قاصد أي يؤدي إلى المطلوب. }ومنها جائر} أي ومن السبيل جائر؛ أي عادل عن الحق فلا يهتدى به؛ ومنه قول امرئ القيس: وقال طرفة: العدولية سفينة منسوبة إلى عَدَوْلَي قرية بالبحرين. والعدولي: الملاح؛ قاله في الصحاح. وفي التنزيل قوله تعالى{ولو شاء لهداكم أجمعين} بين أن المشيئة لله تعالى، وهو يصحح ما ذهب إليه ابن عباس في تأويل الآية، ويرد على القدرية ومن وافقها كما تقدم. {هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون} الشراب ما يشرب، والشجر معروف. أي ينبت من الأمطار أشجارا وعروشا ونباتا. و}تسيمون} ترعون إبلكم؛ يقال: سامت السائمة تسوم سوما أي رعت، فهي سائمة. والسوام والسائم بمعنى، وهو المال الراعي. وجمع السائم والسائمة سوائم. وأسمتها أنا أي أخرجتها إلى الرعي، فأنا مسيم وهي مسامة وسائمة. قال: وأصل السوم الإبعاد في المرعى. وقال الزجاج: أخذ من السومة وهي العلامة؛ أي أنها تؤثر في الأرض علامات برعيها، أو لأنها تعلم للإرسال في المرعى. قلت: والخيل المسومة تكون المرعية. وتكون المعلمة. وقوله {ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون} قوله تعالى{ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات} قرأ أبو بكر عن عاصم }ننبت} بالنون على التعظيم. العامة بالياء على معنى ينبت الله لكم؛ يقال: ينبت الأرض وأنبتت بمعنى، ونبت البقل وأنبت بمعنى. وأنشد الفراء: أي نبت. وأنبته الله فهو منبوت، على غير قياس. وأنبت الغلام نبتت عانته. ونبت الشجر غرسه؛ يقال: نبت أجلك بين عينيك. ونبت الصبي تنبيتا ربيته. والمنبت موضع النبات؛ يقال: ما أحسن نابتة بني فلان؛ أي ما ينت عليه أموالهم وأولادهم. ونبتت لهم نابتة إذا نشأ لهم نشء صغار. وإن بني فلان لنابتة شر. والنوابت من الأحادث الأغمار. والنبيت حي من اليمن. والينبوت شجر؛ كله عن الجوهري. }والزيتون} جمع زيتونة. ويقال للشجرة نفسها: زيتونة، وللثمرة زيتونة. }إن في ذلك} أي الإنزال والإنبات. }لآية} أي دلالة }لقوم يتفكرون}. {وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون} قوله تعالى{وسخر لكم الليل والنهار} أي للسكون والأعمال؛ كما قال {وما ذرأ لكم في الأرض مختلفا ألوانه إن في ذلك لآية لقوم يذكرون} قوله تعالى{وما ذرأ} أي وسخر ما ذرأ في الأرض لكم. }ذرأ} أي خلق؛ ذرأ الله الخلق يذرؤهم ذرءا خلقهم، فهو ذارئ؛ ومنه الذرية وهي نسل الثقلين، إلا أن العرب تركت همزها، والجمع الذراري. يقال: أنمى الله ذرأك وذروك، أي ذريتك. وأصل الذرو والذرء التفريق عن جمع. وفي الحديث: ذرء النار؛ أي أنهم خلقوا لها. ما ذرأه الله سبحانه منه مسخر مذلل كالدواب والأنعام والأشجار وغيرها، ومنه غير ذلك. والدليل عليه ما رواه مالك في الموطأ عن كعب الأحبار قال: لولا كلمات أقولهن لجعلتني يهود حمارا. فقيل له: وما هن؟ فقال: أعوذ بوجه الله العظيم الذي ليس شيء أعظم منه، وبكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر، وبأسماء الله الحسنى كلها ما علمت منها وما لم أعلم، من شر ما خلق وبرأ وذرأ. وفيه عن يحيى بن سعيد أنه قال: أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى عفريتا من الجن يطلبه بشعلة من نار، الحديث. وفيه: وشر ما ذرأ في الأرض. وقد ذكرناه وما في معناه في غير هذا الموضع. قوله تعالى{مختلفا ألوانه} }مختلفا} نصب على الحال. و}ألوانه} هيئاته ومناظره، يعني الدواب والشجر وغيرها. }إن في ذلك} أي في اختلاف ألوانها. }لآية} أي لعبرة. }لقوم يذكرون} أي يتعظون ويعلمون أن في تسخير هذه المكونات لعلامات على وحدانية الله تعالى، وأنه لا يقدر على ذلك أحد غيره. {وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون} قوله تعالى{وهو الذي سخر البحر} تسخير البحر هو تمكين البشر من التصرف فيه وتذليله بالركوب والإرفاء وغيره، وهذه نعمة من نعم الله علينا، فلو شاء سلطه علينا وأغرقنا. وقد مضى الكلام في البحر وفي صيده. وسماه هنا لحما واللحوم عند مالك ثلاثة أجناس: فلحم ذوات الأربع جنس، ولحم ذوات الريش جنس، ولحم ذوات الماء جنس. فلا يجوز بيع الجنس من جنسه متفاضلا، ويجوز بيع لحم البقر والوحش بلحم الطير والسمك متفاضلا، وكذلك لحم الطير بلحم البقر والوحش والسمك يجوز متفاضلا. وقال أبو حنيفة: اللحم كلها أصناف مختلفة كأصولها؛ فلحم البقر صنف، ولحم الغنم صنف، ولحم الإبل صنف، وكذلك الوحش مختلف، كذلك الطير، وكذلك السمك، وهو جحد قولي الشافعي. والقول الآخر أن الكل من النعم والصيد والطير والسمك جنس واحد لا يجوز التفاضل فيه. والقول الأول هو المشهور من مذهبه عند أصحابه. ودليلنا هو أن الله تعالى فرق بين أسماء الأنعام في حياتها فقال وأما الجراد فالمشهور عندنا جواز بيع بعضه ببعض متفاضلا. وذكر عن سحنون أنه يمنع من ذلك، وإليه مال بعض المتأخرين ورآه مما يدخر. اختلف العلماء فيمن حلف ألا يأكل لحما؛ فقال ابن القاسم: يحنث بكل نوع من هذه الأنواع الأربعة. وقال أشهب في المجموعة. لا يحنث إلا بكل لحوم الأنعام دون الوحش وغيره، مراعاة للعرف والعادة، وتقديما لها على إطلاق اللفظ اللغوي، وهو أحسن. قوله تعالى{وتستخرجوا منه حلية تلبسونها} يعني به اللؤلؤ والمرجان؛ لقوله تعالى فجعلها من الماء الحلو. فالحلية حق وهي نحلة الله تعالى لآدم وولده. خلق آدم وتوج وكلل بإكليل الجنة، وختم بالخاتم الذي ورثه عنه سليمان بن داود صلوات الله عليهم، وكان يقال له خاتم العز فيما روي. امتن الله سبحانه على الرجال والنساء امتنانا عاما بما يخرج من البحر، فلا يحرم عليهم شيء منه، وإنما حرم الله تعالى على الرجال الذهب والحرير. إذا ثبت جواز التختم للرجال بخاتم الفضة والتحلي به، فقد كره ابن سيرين وغيره من العلماء نقشه وأن يكون فيه ذكر الله. وأجاز نقشه جماعة من العلماء. ثم إذا نقش عليه اسم الله أو كلمة حكمة أو كلمات من القرآن وجعله في شماله، فهل يدخل به الخلاء ويستنجي بشماله؟ خففه سعيد بن المسيب ومالك. قيل لمالك: إن كان في الخاتم ذكر الله ويلبسه في الشمال أيستنجى به؟ قال: أرجو أن يكون خفيفا. وروي عنه الكراهة وهو الأولى. وعلى المنع من ذلك أكثر أصحابه. وقد روى همام عن ابن جريج عن الزهري عن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء وضع خاتمه. قال أبو داود: هذا حديث منكر، وإنما يعرف عن ابن جريج عن زياد ابن سعد عن الزهري عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتما من ورق ثم ألقاه. قال أبو داود: لم يحدث بهذا إلا همام. من حلف ألا يلبس حليا فلبس لؤلؤا لم يحنث؛ وبه قال أبو حنيفة. قال ابن خويز منداد: لأن هذا وإن كان الاسم اللغوي يتناوله فلم يقصده باليمين، والأيمان تخص بالعرف؛ ألا ترى أنه لو حلف ألا ينام على فراش فنام على الأرض لم يحنث، وكذلك لا يستضيء بسراج فجلس في الشمس لا يحنث، وإن كان الله تعالى قد سمى الأرض فراشا والشمس سراجا. وقال الشافعي وأبو يوسف ومحمد: من حلف ألا يلبس حليا ولبس اللؤلؤ فإنه يحنث؛ لقوله تعالى{وتستخرجوا منه حلية تلبسونها} والذي يخرج منه: اللؤلؤ والمرجان. قوله تعالى{وترى الفلك مواخر فيه} الفلك: السفن، وإفراده وجمعه بلفظ واحد، ويذكر ويؤنث. وليست الحركات في المفرد تلك بأعيانها في الجمع، بل كأنه بنى الجمع بناء آخر؛ يدل على ذلك توسط التثنية في قولهم: فلكان. والفلك المفرد مذكر؛ قال تعالى {وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وأنهارا وسبلا لعلكم تهتدون} قوله تعالى{وألقى في الأرض رواسي} أي جبالا ثابتة. رسا يرسو إذا ثبت وأقام. قال: {أن تميد بكم} أي لئلا تميد؛ عند الكوفيين. وكراهية أن تميد؛ على قول البصريين. والميد: الاضطراب يمينا وشمالا؛ ماد الشيء يميد ميدا إذا تحرك؛ ومادت الأغصان تمايلت، وماد الرجل تبختر. قال وهب بن منبه: خلق الله الأرض فجعلت تميد وتمور، فقالت الملائكة. إن هذه غير مقرة أحدا على ظهرها فأصبحت وقد أرسيت بالجبال، ولم تدر الملائكة مم خلقت الجبال. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لما خلق الله الأرض قمصت ومالت وقالت: أي رب! أتجعل علي من يعمل بالمعاصي والخطايا، ويلقي علي الجيف والنتن! فأرسى الله تعالى فيها من الجبال ما ترون وما لا ترون. قلت: وفي هذه الآية أدل دليل على استعمال الأسباب، وقد كان قادرا على سكونها دون الجبال. وقد تقدم هذا المعنى. }وأنهارا} أي وجعل فيها أنهارا، أو ألقى فيها أنهارا. }وسبلا} أي طرقا ومسالك. }لعلكم تهتدون} أي إلى حيث تقصدون من البلاد فلا تضلون ولا تتحيرون. {وعلامات وبالنجم هم يهتدون} قوله تعالى{وعلامات} قال ابن عباس: العلامات معالم الطرق بالنهار؛ أي جعل للطريق علامات يقع الاهتداء بها. }وبالنجم هم يهتدون} يعني بالليل، والنجم يراد به النجوم. وقرأ ابن وثاب }وبالنجم}. الحسن: بضم النون والجيم جميعا ومراده النجوم، فقصره؛ كما قال الشاعر: وكذلك القول لمن قرأ }النجم} إلا أنه سكن استخفافا. ويجوز أن يكون النجم جمع نجم كسُقُف وسَقف. واختلف في النجوم؛ فقال الفراء: الجدي والفرقدان. وقيل: الثريا. قال الشاعر: أي منه ملوي ومنه محصود، وذلك عند طلوع الثريا يكون. وقال الكلبي: العلامات الجبال. وقال مجاهد: هي النجوم؛ لأن من النجوم ما يهتدى بها، ومنها ما يكون علامة لا يهتدى بها؛ وقاله قتادة والنخعي. وقيل: تم الكلام عند قوله }وعلامات} ثم ابتدأ وقال{وبالنجم هم يهتدون}. وعلى الأول: أي وجعل لكم علامات ونجوما تهتدون بها. ومن العلامات الرياح يهتدى بها. وفي المراد بالاهتداء قولان: أحدهما: في الأسفار، وهذا قول الجمهور. الثاني: في القبلة. قال ابن العربي: أما جميع النجوم فلا يهتدي بها إلا العارف بمطالعها ومغاربها، والفرق بين الجنوبي والشمالي منها، وذلك قليل في الآخرين. وأما الثريا فلا يهتدي بها إلا من يهتدي بجميع النجوم. وإنما الهدي لكل أحد بالجدي والفرقدين؛ لأنها من النجوم المنحصرة المطالع الظاهرة السمت الثابتة في المكان، فإنها تدور على القطب الثابت دورانا محصلا، فهي أبدا هدى الخلق في البر إذا عميت الطرق، وفي البحر عند مجرى السفن، وفي القبلة إذا جهل السمت، وذلك على الجملة بأن تجعل القطب على ظهر منكبك الأيسر فما استقبلت فهو سمت الجهة. قلت: قال علماؤنا: وحكم استقبال القبلة على وجهين: أحدهما: أن يراها ويعاينها فيلزمه استقبالها وإصابتها وقصد جهتها بجميع بدنه. والآخر: أن تكون الكعبة بحيث لا يراها فيلزمه التوجه نحوها وتلقاءها بالدلائل، وهي الشمس والقمر والنجوم والرياح وكل ما يمكن به معرفة جهتها، ومن غابت عنه وصلى مجتهدا إلى غير ناحيتها وهو ممن يمكنه الاجتهاد فلا صلاة له؛ فإذا صلى مجتهدا مستدلا ثم انكشف له بعد الفراغ من صلاته أنه صلى إلى غير القبلة أعاد إن كان في وقتها، وليس ذلك بواجب عليه؛ لأنه قد أدى فرضه على ما أمر به. وقد مضى هذا المعنى في }البقرة} مستوفى والحمد لله. {أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون} قوله تعالى{أفمن يخلق} هو الله تعالى. }كمن لا يخلق} يريد الأصنام. }أفلا تذكرون} أخبر عن الأوثان التي لا تخلق ولا تضر ولا تنفع، كما يخبر عمن يعقل على ما تستعمله العرب في ذلك؛ فإنهم كانوا يعبدونها فذكرت بلفظ }من} كقوله {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم، والله يعلم ما تسرون وما تعلنون} قوله تعالى{أي إن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} تقدم في إبراهيم. }إن الله لغفور رحيم، والله يعلم ما تسرون وما تعلنون} أي ما تبطنونه وما تظهرونه. وقد تقدم. {والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون، أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون} قوله تعالى{والذين يدعون من دون الله} قراءة العامة }تدعون} بالتاء لأن ما قبله خطاب. روى أبو بكر عن عاصم وهبيرة عن حفص }يدعون} بالياء، وهي قراءة يعقوب. فأما قوله{ما تسرون وما تعلنون} فكلهم بالتاء على الخطاب؛ إلا ما روى هبيرة عن حفص عن عاصم أنه قرأ بالياء. }لا يخلقون شيئا} أي لا يقدرون على خلق شيء }وهم يخلقون}. }أموات غير أحياء} أي هم أموات، يعني الأصنام، لا أرواح فيها ولا تسمع ولا تبصر، أي هي جمادات فكيف تعبدونها وأنتم أفضل منها بالحياة. }وما يشعرون} يعني الأصنام. }أيان يبعثون} وقرأ السلمي، }إيان} بكسر الهمزة، وهما لغتان، موضعه نصب بـ }يبعثون} وهي في معنى الاستفهام. والمعنى: لا يدرون متى يبعثون. وعبر عنها كما عبر عن الآدميين؛ لأنهم زعموا أنها تعقل عنهم وتعلم وتشفع لهم عند الله تعالى، فجرى خطابهم على ذلك. وقد قيل: إن الله يبعث الأصنام يوم القيامة ولها أرواح فتتبرأ من عبادتهم، وهي في الدنيا جماد لا تعلم متى تبعث. قال ابن عباس؛ تبعث الأصنام وتركب فيها الأرواح ومعها شياطينها فيتبرؤون من عبدتها، ثم يؤمر بالشياطين والمشركين إلى النار. وقيل: إن الأصنام تطرح في النار مع عبادتها يوم القيامة؛ دليله {إلهكم إله واحد فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة وهم مستكبرون، لا جرم أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه لا يحب المستكبرين} قوله تعالى{إلهكم إله واحد} لما بين استحالة الإشراك بالله تعالى بين أن المعبود واحد لا رب غيره ولا معبود سواه. }فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة} أي لا تقبل الوعظ ولا ينفع فيها الذكر، وهذا رد على القدرية. }وهم مستكبرون} متكبرون متعظمون عن قبول الحق. وقد تقدم. }لا جرم أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون} أي من القول والعمل فيجازيهم. قال الخليل{لا جرم} كلمة تحقيق ولا تكون إلا جوابا؛ يقال: فعلوا ذلك؛ فيقال: لا جرم سيندمون. أي حقا أن لهم النار. وقد مضى القول فيه. }إنه لا يحب المستكبرين} أي لا يثيبهم ولا يثني عليهم. وعن الحسن بن علي أنه مر بمساكين قد قدموا كسرا بينهم وهم يأكلون فقالوا: الغذاء يا أبا عبدالله، فنزل وجلس معهم وقال{إنه لا يحب المستكبرين} فلما فرغ قال: قد أجبتكم فأجيبوني؛ فقاموا معه إلى منزله فأطعمهم وسقاهم وأعطاهم وانصرفوا. قال العلماء. وكل ذنب يمكن التستر منه وإخفاؤه إلا الكبر؛ فإنه فسق يلزمه الإعلان، وهو أصل العصيان كله. {وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين} قوله تعالى{وإذا قيل لكم ماذا أنزل ربكم} يعني وإذا قيل لمن تقدم ذكره ممن لا يؤمن بالآخرة وقلوبهم منكرة بالبعث }ماذا أنزل ربكم}. قيل: القائل النضر بن الحارث، وأن الآية نزلت فيه، وكان خرج إلى الحيرة فاشترى أحاديث }كليلة ودمنة} فكان يقرأ على قريش ويقول: ما يقرأ محمد على أصحابه إلا أساطير الأولين؛ أي ليس هو من تنزيل ربنا. وقيل: إن المؤمنين هم القائلون لهم اختبارا فأجابوا بقولهم{أساطير الأولين} فأقروا بإنكار شيء هو أساطير الأولين. والأساطير: الأباطيل والترهات. والقول في }ماذا أنزل ربكم} كالقول في {ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون} قوله تعالى{ليحملوا أوزارهم} قيل: هي لام كي، وهي متعلقة بما قبلها. وقيل: لام العاقبة، كقوله {قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون} قوله تعالى{قد مكر الذين من قبلهم} أي سبقهم بالكفر أقوام مع الرسل المتقدمين فكانت العاقبة الجميلة للرسل. }فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم} قال ابن عباس وزيد بن أسلم وغيرهما: إنه النمرود بن كنعان وقومه، أرادوا صعود السماء وقتال أهله؛ فبنوا الصرح ليصعدوا منه بعد أن صنع بالنسور ما صنع، فخر. كما تقدم بيانه في آخر سورة }إبراهيم}. ومعنى }فأتى الله بنيانهم} أي أتى أمره البنيان، إما زلزلة أو ريحا فخربته. قال ابن عباس ووهب: كان طول الصرح في السماء خمسة آلاف ذراع، وعرضه ثلاثة آلاف. وقال كعب ومقاتل: كان طول فرسخين، فهبت ريح فألقت رأسه في البحر وخر عليهم الباقي. ولما سقط الصرح تبلبلت ألسن الناس من الفزع يومئذ، فتكلموا بثلاثة وسبعين لسانا، فلذلك سمي بابل، وما كان لسان قبل ذلك إلا السريانية. وقرأ ابن هرمز وابن محيصن }السقف} بضم السين والقاف جميعا. وضم مجاهد السين وأسكن القاف تخفيفا؛ كما تقدم في }وبالنجم} في الوجهين. والأشبه أن يكون جمع سقف. والقواعد: أصول البناء، وإذا اختلت القواعد سقط البناء. وقوله{من فوقهم} قال ابن الأعرابي: وُكِد ليعلمك أنهم كانوا حالين تحته. والعرب تقول: خر علينا سقف ووقع علينا حائط إذا كان يملكه وإن لم يكن وقع عليه. فجاء بقوله{من فوقهم} ليخرج هذا الشك الذي في كلام العرب فقال{من فوقهم} أي عليهم وقع وكانوا تحته فهلكوا وما أفلتوا. وقيل: إن المراد بالسقف السماء؛ أي إن العذاب أتاهم من السماء التي هي فوقهم؛ قال ابن عباس. وقيل: إن قوله{فأتى الله بنيانهم من القواعد} تمثيل، والمعنى: أهلكهم فكانوا بمنزلة من سقط عليه بنيانه. وقيل: المعنى أحبط الله أعمالهم فكانوا بمنزلة من سقط بنيانه. وقيل: المعنى أبطل مكرهم وتدبيرهم فهلكوا كما هلك من نزل عليه السقف من فوقه. وعلى هذا اختلف في الذين خر عليهم السقف؛ فقال ابن عباس وابن زيد ما تقدم. وقيل: إنه بختنصر وأصحابه؛ قال بعض المفسرين. وقيل: المراد المقتسمون الذين ذكرهم الله في سورة الحجر؛ قال الكلبي. وعلى هذا التأويل يخرج وجه التمثيل، والله أعلم. }وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون} أي من حيث ظنوا أنهم في أمان. وقال ابن عباس: يعني البعوضة التي أهلك الله بها نمرودا. {ثم يوم القيامة يخزيهم ويقول أين شركائي الذين كنتم تشاقون فيهم قال الذين أوتوا العلم إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين} قوله تعالى{ثم يوم القيامة يخزيهم} أي يفضحهم بالعذاب ويذلهم به ويهينهم }ويقول أين شركائي} أي بزعمكم وفي دعواكم، أي الآلهة التي عبدتم دوني، وهو سؤال توبيخ. }الذين كنتم تشاقون فيهم} أي تعادون أنبيائي بسببهم، فليدفعوا عنكم هذا العذاب. وقرأ ابن كثير }شركاي} بياء مفتوحة من غير همز، والباقون بالهمز. وقرأ نافع }تشاقون} بكسر النون على الإضافة، أي تعادونني فيهم. وفتحها الباقون. }قال الذين أوتوا العلم} قال ابن عباس: أي الملائكة. وقيل المؤمنون. }إن الخزي اليوم} أي الهوان والذل يوم القيامة. }والسوء} أي العذاب. }على الكافرين}. {الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون} قوله تعالى{الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم} هذا من صفة الكافرين. و}ظالمي أنفسهم} نصب على الحال؛ أي وهم ظالمون أنفسهم إذ أوردوها موارد الهلاك. }فألقوا السلم} أي الاستسلام. أي أقروا لله بالربوبية وانقادوا عند الموت وقالوا{ما كنا نعمل من سوء} أي من شرك. فقالت لهم الملائكة{بلى} قد كنتم تعملون الأسواء. }إن الله عليم بما كنتم تعملون} وقال عكرمة. نزلت هذه الآية بالمدينة في قوم أسلموا بمكة ولم يهاجروا، فأخرجتهم قريش إلى بدر كرها فقتلوا بها؛ فقال{الذين تتوفاهم الملائكة} بقبض أرواحهم. }ظالمي أنفسهم} في مقامهم بمكة وتركهم الهجرة. }فألقوا السلم} يعني في خروجهم معهم. وفيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه الصلح؛ قال الأخفش. الثاني: الاستسلام؛ قال قطرب. الثالث: الخضوع؛ قاله مقاتل. }ما كنا نعمل من سوء} يعني من كفر. }بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون} يعني أن أعمالهم أعمال الكفار. وقيل: إن بعض المسلمين لما رأوا قلة المؤمنين رجعوا إلى المشركين؛ فنزلت فيهم. وعلى القول الأول فلا يخرج كافر ولا منافق من الدنيا حتى ينقاد ويستسلم، ويخضع ويذل، ولا تنفعهم حينئذ توبة ولا إيمان؛ كما قال {فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فلبئس مثوى المتكبرين} قوله تعالى{فادخلوا أبواب جهنم} أي يقال لهم ذلك عند الموت. وقيل: هو بشارة لهم بعذاب القبر؛ إذ هو باب من أبواب جهنم للكافرين. وقيل: لا تصل أهل الدركة الثانية إليها مثلا إلا بدخول الدركة الأولى ثم الثانية ثم الثالثة هكذا. وقيل: لكل دركة باب مفرد، فالبعض يدخلون من باب والبعض يدخلون من باب آخر. فالله أعلم. }خالدين فيها} أي ماكثين فيها. }فلبئس مثوى} أي مقام }المتكبرين} الذين تكبروا عن الإيمان وعن عبادة الله تعالى، وقد بينهم بقوله الحق {وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ولدار الآخرة خير ولنعم دار المتقين، جنات عدن يدخلونها تجري من تحتها الأنهار لهم فيها ما يشاؤون كذلك يجزي الله المتقين} قوله تعالى{وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا} أي قالوا: أنزل خيرا؛ وتم الكلام. و}ماذا} على هذا اسم واحد. وكان يرد الرجل من العرب مكة في أيام الموسم فيسأل المشركين عن محمد عليه السلام فيقولون: ساحر أو شاعر أو كاهن أو مجنون. ويسأل المؤمنين فيقولون: أنزل الله عليه الخير والهدى، والمراد القرآن. وقيل: إن هذا يقال لأهل الإيمان يوم القيامة. قال الثعلبي: فإن قيل: لم ارتفع الجواب في قوله قوله تعالى{للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة} قيل: هو من كلام الله عز وجل. وقيل: هو من جملة كلام الذين اتقوا. والحسنة هنا: الجنة؛ أي من أطاع الله فله الجنة غدا. وقيل{للذين أحسنوا} اليوم حسنة في الدنيا من النصر والفتح والغنيمة }ولدار الآخرة خير} أي ما ينالون في الآخرة من ثواب الجنة خير وأعظم من دار الدنيا؛ لفنائها وبقاء الآخرة. }ولنعم دار المتقين} فيه وجهان: قال الحسن: المعنى ولنعم دار المتقين الدنيا؛ لأنهم نالوا بالعمل فيها ثواب الآخرة ودخول الجنة. وقيل: المعنى ولنعم دار المتقين الآخرة؛ وهذا قول الجمهور. وعلى هذا تكون }جنات عدن} بدلا من الدار فلذلك ارتفع. }جنات عدن} بدلا من الدار فلذلك ارتفع. وقيل: ارتفع على تقدير هي جنات، فهي مبينة لقوله{دار المتقين}. أو تكون مرفوعة بالابتداء، التقدير: جنات عدن نعم دار المتقين. }يدخلونها} في موضع الصفة، أي مدخولة. وقيل{جنات} رفع بالابتداء، وخبره }يدخلونها} وعليه يخرج قول الحسن. والله أعلم. }تجري من تحتها الأنهار} تقدم. }لهم فيها ما يشاؤون} أي مما تمنوه وأرادوه. }كذلك يجزي الله المتقين} أي مثل هذا الجزاء يجزي الله المتقين. {الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون} قوله تعالى{الذين تتوفاهم الملائكة طيبين} قرأ الأعمش وحمزة }يتوفاهم الملائكة} في الموضعين بالياء، واختاره أبو عبيد؛ لما روي عن ابن مسعود أنه قال: إن قريشا زعموا أن الملائكة إناث فذكروهم أنتم. الباقون بالتاء؛ لأن المراد به الجماعة من الملائكة. و}طيبين} فيه ستة أقوال: الأول{طيبين} طاهرين من الشرك. الثاني: صالحين. الثالث: زاكية أفعالهم وأقوالهم. الرابع: طيبين الأنفس ثقة بما يلقونه من ثواب الله تعالى. الخامس: طيبة نفوسهم بالرجوع إلى الله. السادس{طيبين} أن تكون وفاتهم طيبة سهلة لا صعوبة فيها ولا ألم؛ بخلاف ما تقبض به روح الكافر والمخلط. والله أعلم. }يقولون سلام عليكم} يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون السلام إنذارا لهم بالوفاة. الثاني: أن يكون تبشيرا لهم بالجنة؛ لأن السلام أمان. وذكر ابن المبارك قال: حدثني حيوة قال أخبرني أبو صخر عن محمد بن كعب القرظي قال: إذا استنقعت نفس العبد المؤمن جاءه ملك الموت فقال: السلام عليك وليّ الله الله يقرأ عليك السلام. ثم نزع بهذه الآية }الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم}. وقال ابن مسعود: إذا جاء ملك الموت يقبض روح المؤمن قال: ربك مقرئك السلام. وقال مجاهد: إن المؤمن ليبشر بصلاح ولده من بعده لتقر عينه. وقد أتينا على هذا في كتاب التذكرة وذكرنا هناك الأخبار الواردة في هذا المعنى، والحمد لله. }ادخلوا الجنة} يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون معناه أبشروا بدخول الجنة. الثاني: أن يقولوا ذلك لهم في الآخرة }بما كنتم تعملون} يعني في الدنيا من الصالحات. {هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربك كذلك فعل الذين من قبلهم وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} قوله تعالى{هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة} هذا راجع إلى الكفار، أي ما ينتظرون إلا أن تأتيهم الملائكة لقبض أرواحهم وهم ظالمون لأنفسهم. وقرأ الأعمش وابن وثاب وحمزة والكسائي وخلف }يأتيهم الملائكة} بالياء. والباقون بالتاء على ما تقدم. }أو يأتي أمر ربك} أي بالعذاب من القتل كيوم بدر، أو الزلزلة والخسف في الدنيا. وقيل: المراد يوم القيامة. والقوم لم ينتظروا هذه الأشياء لأنهم ما آمنوا بها، ولكن امتناعهم عن الإيمان أوجب عليهم العذاب، فأضيف ذلك إليهم، أي عاقبتهم العذاب. }كذلك فعل الذين من قبلهم} أي أصروا على الكفر فأتاهم أمر الله فهلكوا. }وما ظلمهم الله} أي ما ظلمهم الله بتعذيبهم وإهلاكهم، ولكن ظلموا أنفسهم بالشرك. {فأصابهم سيئات ما عملوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون} قوله تعالى{فأصابهم سيئات ما عملوا} قيل: فيه تقديم وتأخير؛ التقدير: كذلك فعل الذين من قبلهم فأصابهم سيئات ما عملوا، وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون، فأصابهم عقوبات كفرهم وجزاء الخبيث من أعمالهم. }وحاق بهم} أي أحاط بهم ودار. }ما كانوا به يستهزئون} أي عقاب استهزائهم. {وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلاغ المبين} قوله تعالى{وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء} أي شيئا، و}من} صلة. قال الزجاج: قالوه استهزاء، ولو قالوه عن اعتقاد لكانوا مؤمنين. وقد مضى. }كذلك فعل الذين من قبلهم} أي مثل هذا التكذيب والاستهزاء فعل من كان قبلهم بالرسل فأهلكوا. }فهل على الرسل إلا البلاغ المبين} أي ليس عليهم إلا التبليغ، وأما الهداية فهي إلى الله تعالى. { ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين} قوله تعالى{ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله} أي بأن اعبدوا الله ووحدوه. }واجتنبوا الطاغوت} أي اتركوا كل معبود دون الله كالشيطان والكاهن والصنم، وكل من دعا إلى الضلال. }فمنهم من هدى الله} أي أرشده إلى دينه وعبادته. }ومنهم من حقت عليه الضلالة} أي بالقضاء السابق عليه حتى مات على كفره، وهذا يرد على القدرية؛ لأنهم زعموا أن الله هدى الناس كلهم ووفقهم للهدى، والله تعالى يقول{فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة} وقد تقدم. }فسيروا في الأرض} أي فسيروا معتبرين في الأرض }فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين} أي كيف صار آخر أمرهم إلى الخراب والعذاب والهلاك. {إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل وما لهم من ناصرين} قوله تعالى{إن تحرص على هداهم} أي إن تطلب يا محمد بجهدك هداهم. }فإن الله لا يهدي من يضل وما لهم من ناصرين} أي لا يرشد من أضله، أي من سبق له من الله الضلالة لم يهده. وهذه قراءة ابن مسعود وأهل الكوفة. }فيهدي} فعل مستقبل وماضيه هدى. و}من} في موضع نصب }بيهدي} ويجوز أن يكون هدى يهدي بمعنى اهتدى يهتدي، رواه أبو عبيد عن الفراء قال: كما قرئ {وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت بلى وعدا عليه حقا ولكن أكثر الناس لا يعلمون} قوله تعالى{وأقسموا بالله جهد أيمانهم} هذا تعجيب من صنعهم، إذ أقسموا بالله وبالغوا في تغليظ اليمين بأن الله لا يبعث من يموت. ووجه التعجيب أنهم يظهرون تعظيم الله فيقسمون به ثم يعجزونه عن بعث الأموات. وقال أبو العالية: كان لرجل من المسلمين على مشرك دين فتقاضاه، وكان في بعض كلامه: والذي أرجوه بعد الموت إنه لكذا، فأقسم المشرك بالله: لا يبعث الله من يموت؛ فنزلت الآية. وقال قتادة : ذكر لنا أن ابن عباس قال له رجل: يا ابن عباس، إن ناسا يزعمون أن عليا مبعوث بعد الموت قبل الساعة، ويتأولون هذه الآية. فقال ابن عباس: كذب أولئك! إنما هذه الآية عامة للناس، لو كان علي مبعوثا قبل القيامة ما نكحنا نساءه ولا قسمنا ميراثه. }بلى} هذا رد عليهم؛ أي بلى ليبعثنهم. }وعدا عليه حقا} مصدر مؤكد؛ لأن قوله }يبعثهم} يدل على الوعد، أي وعد البعث وعدا حقا. }ولكن أكثر الناس لا يعلمون} أنهم مبعوثون. {ليبين لهم الذي يختلفون فيه وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين} قوله تعالى{ليبين لهم} أي ليظهر لهم. }الذي يختلفون فيه} أي من أمر البعث. }وليعلم الذين كفروا} بالبعث وأقسموا عليه }أنهم كانوا كاذبين} وقيل: المعنى ولقد بعثنا في كل أمة رسولا ليبين لهم الذي يختلفون فيه، والذي اختلف فيه المشركون والمسلمون أمور: منها البعث، ومنها عبادة الأصنام، ومنها إقرار قوم بأن محمدا حق ولكن منعهم من اتباعه التقليد؛ كأبي طالب. {إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون} أعلمهم سهولة الخلق عليه، أي إذا أردنا أن نبعث من يموت فلا تعب علينا ولا نصب في إحيائهم، ولا في غير ذلك مما نحدثه؛ لأنا إنما نقول له كن فيكون. قراءة ابن عامر والكسائي }فيكون} نصبا عطفا على أن نقول. وقال الزجاج: يجوز أن يكون نصبا على جواب }كن}. الباقون بالرفع على معنى فهو يكون. وقال ابن الأنباري: أوقع لفظ الشيء على المعلوم عند الله قبل الخلق لأنه بمنزلة ما وجد وشوهد. وفي الآية دليل على أن القرآن غير مخلوق؛ لأنه لو كان قوله{كن} مخلوقا لاحتاج إلى قول ثان، والثاني إلى ثالث وتسلسل وكان محالا. وفيها دليل على أن الله سبحانه مريد لجميع الحوادث كلها خيرها وشرها نفعها وضرها؛ والدليل على ذلك أن من يرى في سلطانه ما يكرهه ولا يريده فلأحد شيئين: إما لكونه جاهلا لا يدري، وإما لكونه مغلوبا لا يطيق، ولا يجوز ذلك في وصفه سبحانه، وقد قام الدليل على أنه خالق لاكتساب العباد، ويستحيل أن يكون فاعلا لشيء وهو غير مريد له؛ لأن أكثر أفعالنا يحصل على خلاف مقصودنا وإرادتنا، فلو لم يكن الحق سبحانه مريدا لها لكانت تلك الأفعال تحصل من غير قصد؛ وهذا قول الطبيعيين، وقد أجمع الموحدون على خلافه وفساده. {والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون} قوله تعالى{والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا} قد تقدم في }النساء} معنى الهجرة، وهي ترك الأوطان والأهل والقرابة في الله أو في دين الله، وترك السيئات. وقيل{في} بمعنى اللام، أي لله. }من بعد ما ظلموا} أي عذبوا في الله. نزلت في صهيب وبلال وخباب وعمار، عذبهم أهل مكة حتى قالوا لهم ما أرادوا، فلما خلوهم هاجروا إلى المدينة؛ قاله الكلبي. وقيل: نزلت في أبي جندل بن سهيل. وقال قتادة: المراد أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ظلمهم المشركون بمكة وأخرجوهم حتى لحق طائفة منهم بالحبشة؛ ثم بوأهم الله تعالى دار الهجرة وجعل لهم أنصارا من المؤمنين. والآية تعم الجميع. }لنبوئنهم في الدنيا حسنة} في الحسنة ستة أقوال: الأول: نزول المدينة؛ قاله ابن عباس والحسن والشعبي وقتادة. الثاني: الرزق الحسن؛ قاله مجاهد. الثالث: النصر على عدوهم؛ قاله الضحاك. الرابع: إنه لسان صدق؛ حكاه ابن جريج. الخامس: ما استولوا عليه من فتوح البلاد وصار لهم فيها من الولايات. السادس: ما بقي لهم في الدنيا من الثناء، وما صار فيها لأولادهم من الشرف. وكل ذلك اجتمع لهم بفضل الله، والحمد لله. }ولأجر الآخرة أكبر} أي ولأجر دار الآخرة أكبر، أي أكبر من أن يعلمه أحد قبل أن يشاهده؛ {الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون} قيل{الذين} بدل من }الذين} الأول. وقيل: من الضمير في }لنبوئنهم} وقيل: هم الذين صبروا على دينهم. }وعلى ربهم يتوكلون} في كل أمورهم. وقال بعض أهل التحقيق: خيار الخلق من إذا نابه أمر صبر، وإذا عجز عن أمر توكل؛ قال الله تعالى{الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون}. {وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون، بالبينات والزبر وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون} قوله تعالى{وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم} قراءة العامة }يوحى} بالياء وفتح الحاء. وقرأ حفص عن عاصم }نوحي إليهم} بنون العظمة وكسر الحاء. نزلت في مشركي مكة حيث أنكروا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وقالوا: الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا، فهلا بعث إلينا ملكا؛ فرد الله تعالى عليهم بقوله{وما أرسلنا من قبلك} إلى الأمم الماضية يا محمد }إلا رجالا} آدميين. }فاسألوا أهل الذكر} قال سفيان: يعني مؤمني أهل الكتاب. وقيل: المعنى فاسألوا أهل الكتاب فإن لم يؤمنوا فهم معترفون بأن الرسل كانوا من البشر. روي معناه عن ابن عباس ومجاهد. وقال ابن عباس: أهل الذكر أهل القرآن. وقيل: أهل العلم، والمعنى متقارب. }إن كنتم لا تعلمون} يخبرونكم أن جميع الأنبياء كانوا بشرا. }بالبينات والزبر} قيل{بالبينات، متعلق }بأرسلنا}. وفي الكلام تقديم وتأخير، أي ما أرسلنا من قبلك بالبينات والزبر إلا رجالا - أي غير رجال، }فإلا} بمعنى غير؛ كقوله: لا إله إلا الله، وهذا قول الكلبي - نوحي إليهم. وقيل: في الكلام حذف دل عليه }أرسلنا} أي أرسلناهم بالبينات والزبر. ولا يتعلق }بالبينات} بـ }أرسلنا} الأول على هذا القول؛ لأن ما قبل }إلا} لا يعمل فيما بعدها، وإنما يتعلق بأرسلنا المقدرة، أي أرسلناهم بالبينات. وقيل: مفعول }بتعلمون} والباء زائدة، أو نصب بإضمار أعني؛ كما قال الأعشى: أي أعني المتعيب. والبينات: الحجج والبراهين. والزبر: الكتب. وقد تقدم. }وأنزلنا إليك الذكر} يعني القرآن. }لتبين للناس ما نزل إليهم} في هذا الكتاب من الأحكام والوعد والوعيد بقولك وفعلك؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم مبين عن الله عز وجل مراده مما أجمله في كتابه من أحكام الصلاة والزكاة، وغير ذلك مما لم يفصله. }ولعلهم يتفكرون} فيتعظون. {أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الأرض أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون، أو يأخذهم في تقلبهم فما هم بمعجزين، أو يأخذهم على تخوف فإن ربكم لرؤوف رحيم} قوله تعالى{أفأمن الذين مكروا السيئات} أي بالسيئات، وهذا وعيد للمشركين الذين احتالوا في إبطال الإسلام. }أن يخسف الله بهم الأرض} قال ابن عباس: كما خسف بقارون، يقال: خسف المكان يخسف خسوفا ذهب في الأرض، وخسف الله به الأرض خسوفا أي غاب به فيها؛ ومنه قوله وقال لبيد: أي تنقص لحمها وشحمها. وقال الهيثم بن عدي: التخوف }بالفاء} التنقص، لغة لأزد شنوءة. وأنشد: وقال سعيد بن المسيب: بينما عمر بن الخطاب رضي الله عنه على المنبر قال: يا أيها الناس، ما تقولون في قول الله عز وجل{أو يأخذهم على تخوف} فسكت الناس، فقال شيخ من بني هذيل: هي لغتنا يا أمير المؤمنين، التخوف التنقص. فخرج رجل فقال: يا فلان، ما فعل دينك؟ قال: تخوفته، أي تنقصته؛ فرجع فأخبر عمر فقال عمر: أتعرف العرب ذلك في أشعارهم؟ قال نعم؛ قال شاعرنا أبو كبير الهذلي يصف ناقة تنقص السير سنامها بعد تمكه واكتنازه: فقال عمر: يا أيها الناس، عليكم بديوانكم شعر الجاهلية فإن فيه تفسير كتابكم ومعاني كلامكم. تمك السنام يتمك تمكا، أي طال وارتفع، فهو تامك. والسفن والمسفن ما يُنجر به الخشب. وقال الليث بن سعد{على تخوف} على عجل. وقال: على تقريع بما قدموه من ذنوبهم، وهذا مروي عن ابن عباس أيضا. وقال قتادة{على تخوف} أن يعاقب أو يتجاوز. }فإن ربكم لرؤوف رحيم} أي لا يعاجل بل يمهل. {أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله وهم داخرون} قرأ حمزة والكسائي وخلف ويحيى والأعمش }تروا} بالتاء، على أن الخطاب لجميع الناس. الباقون بالياء خبرا عن الذين يمكرون السيئات؛ وهو الاختيار. }من شيء} يعني من جسم قائم له ظل من شجرة أو جبل؛ قاله ابن عباس. وإن كانت الأشياء كلها سميعة مطيعة لله تعالى. }يتفيأ ظلاله} قرأ أبو عمرو ويعقوب وغيرهما بالتاء لتأنيث الظلال. الباقون بالياء، واختاره أبو عبيد. أي يميل من جانب إلى جانب، ويكون أول النهار على حال ويتقلص ثم يعود في آخر النهار على حالة أخرى؛ فدورانها وميلانها من موضع إلى موضع سجودها؛ ومنه قيل للظل بالعشي: فيء؛ لأنه فاء من المغرب إلى المشرق، أي رجع. والفيء الرجوع؛ ومنه كذا نسبه الماوردي لذي الرمة، ونسبه الجوهري للفرزدق وقال: المخيس اسم سجن كان بالعراق؛ أي موضع التذلل، وقال. ووحد اليمين في قوله{عن اليمين} وجمع الشمال؛ لأن معنى اليمين وإن كان واحدا الجمع. ولو قال: عن الأيمان والشمائل، واليمين والشمائل، أو اليمين والشمال، أو الأيمان والشمال لجاز؛ لأن المعنى للكثرة. وأيضا فمن شأن العرب إذا اجتمعت علامتان في شيء واحد أن تجمع إحداهما وتفرد الأخرى؛ كقوله تعالى ولم يقل جلود. وقيل: وحد اليمين لأن الشمس إذا طلعت وأنت متَوجّه إلى القبلة انبسط الظل عن اليمين ثم في حال يميل إلى جهة الشمال ثم حالات، فسماها شمائل. {ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون، يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون} قوله تعالى{ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دابة} أي من كل ما يدب على الأرض. }والملائكة} يعني الملائكة الذين في الأرض، وإنما أفردهم بالذكر لاختصاصهم بشرف المنزلة، فميزهم من صفة الدبيب بالذكر وإن دخلوا فيها؛ كقوله {وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد فإياي فارهبون} قوله تعالى{وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين} قيل: المعنى لا تتخذوا اثنين إلهين. وقيل: جاء قوله }اثنين} توكيدا. ولما كان الإله الحق لا يتعدد وأن كل من يتعدد فليس بإله، اقتصر على ذكر الاثنين؛ لأنه قصد نفي التعديد. }إنما هو إله واحد} يعني ذاته المقدسة. وقد قام الدليل العقلي والشرعي على وحدانيته والحمد لله. }فإياي فارهبوني} أي خافون. وقد تقدم. {وله ما في السماوات والأرض وله الدين واصبا أفغير الله تتقون} قوله تعالى{وله ما في السماوات والأرض وله الدين واصبا} الدين: الطاعة والإخلاص. و}واصبا} معناه دائما؛ قال الفراء، حكاه الجوهري. وصب الشيء يصب وصوبا، أي دام. ووصب الرجل على الأمر إذا واظب عليه. والمعنى: طاعة الله واجبة أبدا. وممن قال واصبا دائما: الحسن ومجاهد وقتادة والضحاك. ومنه قوله تعالى{ولهم عذاب واصب}الصافات:9] أي دائم. وقال الدولي: أنشد الغزنوي والثعلبي وغيرهما: وقيل: الوصب التعب والإعياء؛ أي تجب طاعة الله وإن تعب العبد فيها. ومنه قول الشاعر: وقال ابن عباس{واصبا} واجبا. الفراء والكلبي: خالصا. }أفغير الله تتقون} أي لا ينبغي أن تتقوا غير الله. }فغير} نصب بـ }تتقون}. {وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون، ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون، ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون} قوله تعالى{وما بكم من نعمة فمن الله} قال الفراء. }ما} بمعنى الجزاء. والباء في }بكم} متعلقة بفعل مضمر، تقديره: وما يكن بكم. }من نعمة} أي صحة جسم وسعة رزق وولد فمن الله. وقيل: المعنى وما بكم من نعمة فمن الله هي. }ثم إذا مسكم الضر} أي السقم والبلاء والقحط. }فإليه تجأرون} أي تضجون بالدعاء. يقال: جأر يجار جؤارا. والجؤار مثل الخوار؛ يقال: جأر الثور يجأر، أي صاح. وقرأ بعضهم }عجلا جسدا له جؤار}؛ حكاه الأخفش. وجأر الرجل إلى الله، أي تضرع بالدعاء. وقال الأعشى يصف بقرة: {ثم إذا كشف الضر عنكم} أي البلاء والسقم. }إذا فريق منكم بربهم يشركون} بعد إزالة البلاء وبعد الجؤار. فمعنى الكلام التعجيب من الإشراك بعد النجاة من الهلاك، وهذا المعنى مكرر في القرآن، وقال الزجاج: هذا خاص بمن كفر. }ليكفروا بما آتيناهم} أي ليجحدوا نعمة الله التي أنعم بها عليهم من كشف الضر والبلاء. أي أشركوا ليجحدوا، فاللام لام كي. وقيل لام العاقبة. وقيل{ليكفروا بما آتيناهم} أي ليجعلوا النعمة سببا للكفر، وكل هذا فعل خبيث؛ كما قال: }فتمتعوا} أمر تهديد. وقرأ عبدالله }قل تمتعوا}. }فسوف تعلمون} أي عاقبة أمركم. {ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم تالله لتسألن عما كنتم تفترون} قوله تعالى{ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم} ذكر نوعا آخر من جهالتهم، وأنهم يجعلون لما لا يعلمون أنه يضر وينفع - وهي الأصنام - شيئا من أموالهم يتقربون به إليه؛ قال مجاهد وقتادة وغيرهما. فـ }يعلمون} على هذا للمشركين. وقيل هي للأوثان، وجرى بالواو والنون مجرى من يعقل، فهو رد على }ما} ومفعول يعلم محذوف، والتقدير: ويجعل هؤلاء الكفار للأصنام التي لا تعلم شيئا نصيبا. وقد مضى في }الأنعام:136} تفسير هذا المعنى، ثم رجع من الخبر إلى الخطاب فقال{تالله لتسئلن} وهذا سؤال توبيخ. }عما كنتم تفترون} أي تختلقونه من الكذب على الله أنه أمركم بهذا. {ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون} قوله تعالى{ويجعلون لله البنات} نزلت في خزاعة وكنانة؛ فإنهم زعموا أن الملائكة بنات الله، فكانوا يقولون الحقوا البنات بالبنات. }سبحانه} نزه نفسه وعظمها عما نسبوه إليه من اتخاذ الأولاد. }ولهم ما يشتهون} أي يجعلون لأنفسهم البنين ويأنفون من البنات. وموضع }ما} رفع بالابتداء، والخبر }لهم} وتم الكلام عند قوله{سبحانه}. وأجاز الفراء كونها نصبا، على تقدير: ويجعلون لهم ما يشتهون. وأنكره الزجاج وقال: العرب تستعمل في مثل هذا ويجعلون لأنفسهم. {وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم} قوله تعالى{وإذا بشر أحدهم بالأنثى} أي أخبر أحدهم بولادة بنت. }ظل وجهه مسودا} أي متغيرا، وليس يريد السواد الذي هو ضد البياض، وإنما هو كناية عن غمه بالبنت. والعرب تقول لكل من لقي مكروها: قد اسود وجهه غما وحزنا؛ قال الزجاج. وحكى الماوردي أن المراد سواد اللون قال: وهو قول الجمهور. }وهو كظيم} أي ممتلئ من الغم. وقال ابن عباس: حزين. وقال الأخفش: هو الذي يكظم غيظه فلا يظهره. وقيل: إنه المغموم الذي يطبق فاه فلا يتكلم من الغم؛ مأخوذ من الكظامة وهو شد فم القربة؛ قاله علي بن عيسى. وقد تقدم. {يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون} قوله تعالى{يتوارى من القوم} أي يختفي ويتغيب. }من سوء ما بشر به} أي من سوء الحزن والعار والحياء الذي يلحقه بسبب البنت. }أيمسكه} ذكر الكناية لأنه مردود على }ما}. }على هون} أي هوان. وكذا قرأ عيسى الثقفي }على هوان} والهون الهوان بلغة قريش؛ قاله اليزيدي وحكاه أبو عبيد عن الكسائي. وقال الفراء: هو القليل بلغة تميم. وقال الكسائي: هو البلاء والمشقة. وقالت: وقرأ الأعمش }أيمسكه على سوء} ذكره النحاس، قال: وقرأ الجحدري }أم يدسها في التراب} يرده على قوله{بالأنثى} ويلزمه أن يقرأ }أيمسكها}. وقيل: يرجع الهوان إلى البنت؛ أي أيمسكها وهي مهانة عنده. وقيل: يرجع إلى المولود له؛ أيمسكه على رغم أنفه أم يدسه في التراب، وهو ما كانوا يفعلونه من دفن البنت حية. قال قتادة: كان مضر وخزاعة يدفنون البنات أحياء؛ وأشدهم في هذا تميم. زعموا خوف القهر عليهم وطمع غير الأكفاء فيهن. وكان صعصعة ابن ناجية عم الفرزدق إذا أحس بشيء من ذلك وجه إلى والد البنت إبلا يستحييها بذلك. فقال الفرزدق يفتخر: وقيل: دسها إخفاؤها عن الناس حتى لا تعرف، كالمدسوس في التراب لإخفائه عن الأبصار؛ وهذا محتمل. أحب أصهاري إلي القبر وقال عبدالله بن طاهر: فبعل يراعيها وخدر يكنها وقبر يواريها وخيرهم القبر {ألا ساء ما يحكمون} أي في إضافة البنات إلى خالقهم وإضافة البنين إليهم. نظيره
|